كتب المقال محلل الشؤون الدولية في مؤسسة كارنيجي، الذي يرى أن اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتوقيعه في مصر في 13 أكتوبر، مثّل خسارة صافية للنظام الروسي. فالحرب في غزة كانت لعامين الأداة الأمثل لصرف الانتباه عن غزو أوكرانيا، وساعدت في تهميشها إعلاميًا. ومع الهدنة الجديدة، عاد العالم لتذكّر الغزو الروسي، ما أضعف الميزة التي جنتها موسكو من هذا الصراع.

تشير مؤسسة كارنيجي إلى أن الاتفاق يوجّه ضربة لنظرية الكرملين القائلة إن النظام الدولي القديم ينهار تاركًا الفوضى مكانه، وإن القوى الكبرى لم تعد قادرة على فرض سلطتها، وأن من رماد الفوضى يولد "نظام أفضل". منذ غزو أوكرانيا في فبراير 2022، سعت الدعاية الروسية لتبرير الحرب باعتبارها استعادة للتوازن العالمي، لا عدوانًا منفردًا، متذرعة بأن روسيا "تفعل ما فعله الغرب دائمًا".

لكن الواقع أن موسكو استفادت أكثر من أي طرف آخر من انهيار النظام العالمي. فهي الدولة الوحيدة التي اعترفت بحكومة طالبان وأقامت علاقات دبلوماسية معها، واحتفت بسيطرتها على كابول بوصفها انتصارًا للقوى المحلية على الهيمنة الغربية. كما دعمت الحوثيين بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية لتعطيل أحد أهم الممرات التجارية في العالم، وساندت انقلاب النيجر عام 2023 تحت شعار "مناهضة الاستعمار"، ونشرت مرتزقة فاجنر في إفريقيا لتحقيق نفوذ غير مباشر.

اتسع هذا النشاط إلى تجنيد عشرات الآلاف من الجنود الكوريين الشماليين والمرتزقة حول العالم، في خرق للقوانين الدولية، وحتى في دول صديقة. كما استخدمت روسيا تكتيكات هجينة لاستفزاز حلف الناتو، وسعت لتوظيف أي صراع قائم في العالم كدليل على فساد النظام الدولي القائم.

وخلال الحرب بين إسرائيل وحماس، تواصلت موسكو مع الطرفين لكنها لم تمارس أي ضغط للتوصل إلى هدنة، بل دعمت كل طرف على حدة ضد الغرب. واستغلت صراعات أخرى – بين الهند وباكستان، أو كمبوديا وتايلاند، أو في شرق الكونغو – لتكرار روايتها بأن الغرب هو أصل الفوضى.

تقوم نظرية الكرملين للعلاقات الدولية على أن العالم الذي تَشكّل بعد تراجع الاتحاد السوفييتي غير قابل للاستمرار، وأن الغرب، بتشبثه بالهيمنة، يدفع روسيا إلى "تحطيمه بالقوة". هذه النظرية لا تعترف بضحايا ولا بالدمار، بل تحتفي بهما كمرحلة "تحررية" في إعادة تشكيل النظام العالمي.

لكن اتفاق غزة جاء لينقض تلك الفرضية؛ إذ تحقق بوسائل تقليدية وبوساطة أمريكية مباشرة، لا عبر قوى "محلية" كما تروّج موسكو. والنتيجة أن الكرملين اضطر لتأجيل قمته مع العالم العربي لتفادي المنافسة مع مبادرة ترامب.

تعاني موسكو من أزمة سردية أعمق. فقد ظلت تسوّق لمبدأ "الحلول المحلية للمشكلات المحلية"، معتبرة صيغة أستانة حول سوريا مثالًا يحتذى، حيث اجتمعت تركيا وإيران وروسيا لتقرير مصير سوريا بعيدًا عن واشنطن وبروكسل. وحتى تسوية ناغورنو كاراباخ، التي لعب فيها بوتين دورًا شكليًا، انسجمت مع تلك الرؤية. لكن وقف النار في غزة قلب هذه الصورة رأسًا على عقب، إذ أثبت أن واشنطن لا تزال الطرف القادر على فرض السلام عبر الأدوات الدبلوماسية الكلاسيكية.

شارك في قمة غزة ثلاثون بلدًا، تسعة منها من الغرب، بينما غابت روسيا والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا، واقتصر تمثيل مجموعة "بريكس" على الهند. وظهر الحضور الغربي بارزًا: فرنسا، إيطاليا، المملكة المتحدة، والمجر إلى جانب أوروبا كلها، في مشهد يبرز عجز موسكو عن تقديم أي بديل سوى الخطاب العدائي ضد الغرب والنفط شبه المحظور. حتى صادرات الأسلحة التي كانت ورقة قوة روسية تراجعت بفعل الحرب الطويلة.

وهكذا تتكشف المفارقة الأخيرة: نجاح ترامب في فرض وقف النار بين خصمين لدودين يسلّط الضوء على تصلب بوتين وعجزه عن أداء دور رجل الدولة. فبينما يظهر ترامب كمفاوض لا يكلّ عن السعي إلى الصفقات، يبدو بوتين غارقًا في عناد مكلف أضاع عليه رهانه الأكبر على انهيار النظام الدولي. وبعد هدنة غزة، يواجه بوتين ضغطًا متزايدًا في أي قمة مقبلة، إذ يصعب عليه التهرب مجددًا من دعوات السلام التي أضعفت موقعه أمام العالم.

https://carnegieendowment.org/russia-eurasia/politika/2025/10/russia-absence-gasa-peace?lang=en